نوفمبر 2024
الأحد | الإثنين | الثلاثاء | الأربعاء | الخميس | الجمعة | السبت |
---|---|---|---|---|---|---|
1 | 2 | |||||
3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 |
10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 |
17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 |
24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 |
المواضيع الأخيرة
» يهم أحب الى إليكمن طرف 3abody الإثنين أبريل 20, 2015 5:00 pm
» رن جوالك بالغلط رقم غريب...
من طرف 3abody الإثنين أبريل 20, 2015 4:58 pm
» --- الغيرة ---
من طرف 3abody الإثنين أبريل 20, 2015 4:56 pm
» الإعجاز في القرآن الكريم
من طرف سموحة السبت أبريل 11, 2015 3:26 pm
» الفتن
من طرف سموحة السبت أبريل 11, 2015 3:26 pm
» وحدة الأمة الإسلامية
من طرف سموحة السبت أبريل 11, 2015 3:25 pm
» الخشوع في الصلاة
من طرف سموحة السبت أبريل 11, 2015 3:25 pm
» حكم الاستماع للاغاني
من طرف سموحة السبت أبريل 11, 2015 3:25 pm
» تقدير المعلّم والعلماء
من طرف سموحة السبت أبريل 11, 2015 3:25 pm
» الدعاء عند سماع الرعد
من طرف سموحة السبت أبريل 11, 2015 3:24 pm
» سبع يجري للعبد أجرهن وهو في قبره بعد موته
من طرف سموحة السبت أبريل 11, 2015 3:24 pm
» وَصْلِ صفِّ الصلاة
من طرف سموحة السبت أبريل 11, 2015 3:24 pm
» يُغبطهم النبيون والشهداء
من طرف سموحة السبت أبريل 11, 2015 3:24 pm
» كيف تطرد الجن
من طرف سموحة السبت أبريل 11, 2015 3:23 pm
» ويدرؤون بالحسنة السيئة
من طرف سموحة السبت أبريل 11, 2015 3:23 pm
» لعبة المستحيلاااات ..
من طرف ساحرة الشرق السبت أبريل 11, 2015 10:56 am
» لماذا لا نقبل النصيحة كبرياء ام ماذا
من طرف سموحة السبت أبريل 11, 2015 9:03 am
» نقاط من أعماق حياتنا
من طرف سموحة السبت أبريل 11, 2015 9:02 am
» •.♥.• عندمــا يغــيب الرجــل مـن حيــاة المــرأة •.♥.•
من طرف سموحة السبت أبريل 11, 2015 9:02 am
» اقتل هؤلاء الخمسه لتعيش بسعاده
من طرف سموحة السبت أبريل 11, 2015 9:01 am
» كل أنسان له أ حساس
من طرف سموحة السبت أبريل 11, 2015 9:00 am
» هل الانسان اكثر غدر من البحر
من طرف سموحة السبت أبريل 11, 2015 9:00 am
» hiiiiiiiiiii
من طرف سموحة الجمعة أبريل 10, 2015 7:34 pm
» مرحبا انا جديدة
من طرف سموحة الجمعة أبريل 10, 2015 7:33 pm
» أسرار عبقرية شكسبير وآينشتاين
من طرف سموحة الجمعة أبريل 10, 2015 7:32 pm
» كارل ماركس Karl Marx
من طرف سموحة الجمعة أبريل 10, 2015 7:31 pm
» جابر بن حيان
من طرف سموحة الجمعة أبريل 10, 2015 7:31 pm
» الفريد نوبل
من طرف سموحة الجمعة أبريل 10, 2015 7:31 pm
» مشجعات ريال مدريد و برشلونا
من طرف Rania الجمعة أبريل 10, 2015 7:27 pm
» MBC2 تعرض أفضل 9 أفلام رعب
من طرف Rania الجمعة أبريل 10, 2015 7:26 pm
» دنيا بطمة تخسر لقب Arab Idol وتربح سيارة "كورفيت"
من طرف Rania الجمعة أبريل 10, 2015 7:26 pm
» على mbc اقوى افلام القوى الخارقة
من طرف Rania الجمعة أبريل 10, 2015 7:26 pm
» قنوات MBC جديد
من طرف Rania الجمعة أبريل 10, 2015 7:25 pm
المتواجدون الآن ؟
ككل هناك 27 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 27 زائر :: 1 روبوت الفهرسة في محركات البحثلا أحد
أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 177 بتاريخ السبت نوفمبر 23, 2024 1:06 am
بحـث
عشـــية الإعــدام
2 مشترك
Winter Lights :: القسم الأدبي :: قصص
صفحة 1 من اصل 1
عشـــية الإعــدام
عشـــية الإعــدام
كل
شيء بدا مختلفا في تلك الليلة القمرية. لم يكن شعاع القمر الرمادي المتسلل
عبر القضبان القاتمة باهتا قاسيا كما اعتاده منذ ساقته يد الأقدار إلى
سرداب الموت الذي لبث فيه من عمره شهورا؛ بل كان لجينيا متلألئا يضج حيوية و
ينبض دفئا و ألفة. كانت خربشاته على جدران زنزانته توحي بذلك. كنت أستنطق
حركات يديه السريعة فلا تشي بغير سعادة غامضة لم أحسن يوما تأويلها فأكتفي
منها بخيط دقيق من شبه ابتسامة أرسمها على شفتي دعما له. كانت نظراته قد
ازدادت ألقا على ألق، تلمع منعكسة على جدران السجن و زواياه كلما أجال بصره
فيها. حاولت أن أستشف سرها عبر إمعان نظري فيها، لكن بريقها كان أقوى من
أن يمكنني من ذلك فيرتد إلي بصري خاسئا قانعا بما حازه من يقين بأن ذاك هو
ألق سعادة لا أكثر. كانت عفونة الجدار مبعث سعادة له في تلك الليلة. كان
يتمعنها و يتلمسها برفق كأنها مخمل ناعم، ثم تصدر عنه أصوات حادة مكبوتة
عرفت من طول معاشرتي له أنها دليل على رضاه.
كل
شيء كان مختلفا إلا عشاؤه القابع في ركن الغرفة على منضدة قرب الباب
الحديدي المصمت إلا من أعلاه حيث نافذتي التي تنقلني إلى عالمه. رغيف محشو
بقطع طرية من الطماطم اللزجة التي تمتزج بقطع الخبز بميوعة تعافها النفس.
كل ليلة، كان يكتفي بقضمتين يحرص أن يكونا أجف من بقية الرغيف و يترك بقيته
لنزلاء زنزانته يتناوشونه و يجرون غنائمهم منه إلى جحورهم ليقيموا على
شرفه مأدبة عائلية. لطالما كانت نظراته توحي بتقززه منهم لكنها كانت مختلفة
في تلك الليلة. كان يمعن نظره فيهم متوددا و ابتسامته بادية على أفق محياه
السمح بينما كنت أرقبه بنصف ابتسامة كسيرة
و هو يتحرك مبتعدا عن الرغيف دون أن يلمسه متنازلا عن لقمتيه علهما يقيمان
أود فأرة توشك أن تلد أو صرصار عابر سبيل تاه عن سربه.
بعد محاولات مضنية، تمكن من أن يصل بكرسيه المهترئ حتى بقعة انسكب فيها ضوء القمر كأنما هو فلقة قد سقطت منه. اتخذ لنفسه مقعدا هناك فانعكست عليه ظلال القضبان و أحاطته من جانبيه. أسند رأسه على كتفه الأيمن و أرسل ذراعيه على جانبي الكرسي ليتهيأ للنوم.
حين
اطمأننت لسكونه، أقفلت نافذتي بهدوء و جلست مستندا إلى الباب الحديدي
تجذبني الذكرى إلى اليوم الأول لمجيء هذا السجين المختلف عن كل من صادفتهم
طيلة سنوات خدمتي. قبل أشهر لا تعينني الذاكرة على تحديد عددها جاؤوا به
معصوب العينين، مكبل اليدين، يجر ساقه التي بدا جليا أنها قد كسرت حديثا
أثناء الاعتقال. كان أنينه صامتا لا يكاد يسمع إلا حين يركل الجندي الذي
يقتاده ساقه إن تباطأ في مشيته عبر ذات هذا الرواق المعتم الذي أجلس فيه.
كان المشهد مألوفا فلطالما رأيت سواه يُساقون، يُركلون ثم يُلقون في هذه
الزنزانة ليمضوا ليلتهم الأولى بين أنين و صراخ و صدى الوعيد بدرس لا يُنسى
يتردد في هذه الأصقاع المخنوقة. أما أنا فكنت و لا زلت أقذر من ذبابة و
أجبن من فأر لأتفوه أو أشير بما قد يوقف هذا المسلسل الذي لم تنتهِ حلقاته
منذ وُلد النظام. كان لساني قد قطع منذ أمد في زنزانة شبيهة بهذه قبل أن
أرضخ و أعلن الولاء لهم.
بقيت
طوال الليل واقفا أرقبه عبر نافذتي الصغيرة وقلبي تتمزق نياطه دون أن أقوى
على مد يد العون. رويدا رويدا خفت صوته، و استكانت حركته، و تمدد جسده على
أرضية زنزانته و شعاع القمر البارد منعكس على ساقه المرتخية إلى جواره. لم
تكد شمس اليوم التالي تطلع حتى جاء جنديان و أمراني بفتح باب الزنزانة.
دخلا و تعالى صراخهما فلم أتبين منه سوى عبارة " تشارك و تهتف في المظاهرات
يا كلب؟ تريد حرية و استقلالاً؟" ، ثم علا صوت صراخه مجددا و اختلط
بأصواتهما الناعقة و هما يجرانه إلى خارج الغرفة. كدت أشير بيدي لأرضي
ضميري الميت لكن نظرة واحدة من أحدهما كانت كافية لتذكيري بكل ما مر على
جسدي من هوان فلذت بصمتي و أشحت بوجهي لئلا أرى. لحظات و ابتلعهم رواق معتم
آخر خفتت عبره أصواتهم.
رميت برأسي بين كفي لأطرد بقايا
الذكرى العالقة بطرف الذاكرة ثم انتفضت حين سمعت صوت قرقعة داخل الزنزانة.
نهضت على عجالة و فتحت نافذتي فلم أرَ سوى طبق يدور دورته الأخيرة على
أرض الزنزانة بعد سقوطه عن المنضدة. لا شك أن جرذا قد أسقطه و هو يسحب
اللقمة الأخيرة المائعة في قعر الطبق. التفتت ناحيته حيث الشعاع القمري
لأجده لا يزال هناك مستكيناً على كرسيه. أقفلت النافذة، و عاودت الجلوس
فعادت الذكريات لتجلدني.
رأيتهما
و هما يعيدانه ليلتها. كانا اثنان آخران يجرانه من ذراعيه و ساقاه
متدليتان خلفه. كانت عيناه شبه مغمضتين و فمه مفتوح ينزف دما و لسانه يتدلى
مشرحا. صفعتني الذكرى مجددا و تذكرت أول جلسة كهرباء عالجوا لساني بها و
خرجت منها بلسان مشرح لشدة اصطكاك أسناني و عدم قدرتي على التحكم بها أو
التحكم بلساني لإبعاده عن مراميها. أشحت بوجهي كما اعتدت أن أفعل دوما حين
وصلتني صرخته مبحوحة بعد أن ألقوه في زنزانته. تلاشت كلماته رفقة صوته منذ
الليلة الأولى.
تتالت
زياراتهم و خفت معها بريق عينيه. وهن جسده و ارتخت أطرافه لقساوة جلسات
العلاج كما اعتادوا تسميتها. لا زلت أذكر تماما يوم أعادوه بعد يومي تغييب
بساق مبتورة و أخرى عاطلة عن العمل. خبرتي الطويلة في صنوف" العلاج" أكدت
لي أنها كانت نتيجة ضربة صائبة على العمود الفقري أصابته بشلل في النصف
الأسفل من جسده الذاوي. لم يصحبوه بعدها و تُرك نسيا منسيا إلا من رغيفي
الفطور و العشاء.
آذنت
عتمة تلك الليلة بالانبلاج، و سرى الدفء في الجسد الهزيل المكوم في كرسيه
فتململ متحركا. استرعت جلبته انتباهي ففتحت نافذتي و وقفت أتأمله. كان يدور
في أرجاء زنزانته يبحث عن ركن فارغ من جدرانها التي كانت قد ضجت برسوماته و
كلماته و خربشاته منذ تركوه فيها. أخيرا و جد ركنا على الجدار أسفل
النافذة و أمسك بقطعته الحجرية البيضاء و خط بتأنٍ " اليوم سأغمض عيني
لأموت بإرادتي". عرفت حينها ماهية الكلمات التي أسرَّ بها الضابط إليه ليلة
أمس و ألقت بنور على محياه
الباسم. كنت قد سمعتها سابقا لكنني لم أحسن اختيار ميتتي بعدها. يومها همس
الضابط بكل خسة و ابتسامة الهزء لا تفارقه: " هي ليلتك الأخيرة لأنك لا
تحسن إغماض عينيك و إقفال فيهك." أعلنت الولاء حينها و حكمت على نفسي بموت
بطيء حبيس هذا الرواق بعد أن تنكر لي القريب و الغريب. بقيت هناك لأكون
شاهدا على دناءة اختياري و عذابات سواي.
لحظات كالدهر مرت و أنا واقف أشبع ناظري من ذلك الوجه المليح و خربشاته التي غزت كل ركن في الغرفة.
عبر
الرواق لمحت ظل رجلي أمن قد أرسلا لاصطحابه. تكومت في ركني و أفسحت الطريق
لهما. فتحا الزنزانة و دخلا لدقائق لمفاوضته لكنه لزم صمته الذي ألفه منذ
الليلة الأولى. خرجا به يدفعانه و التقت عيناي بعبراتهما بعينيه الغائرتين و
ابتسامة عتب تكسر صمت شفتيه لتحكي آلاف الحكايا. أغمض عينيه و سارا به. لم
تكن تهمه كيفية الإعدام أو رؤية طقوسه فقد اختار لنفسه الميتة التي يرضى
موقنا أن نهايته ستكون رفاتاً يُكتشف يوما تحت بلاط إحدى الزنازين.
عند
الظهيرة، كنت في ذات الرواق أقف قرب النافذة و العبرة تخنقني و تحرق وجنتي
متأملا رغيف الفطور و هو يراوح مكانه على المنضدة دون أن يجرؤ النزلاء على
تناوشه في حضرة غياب صاحبه.
مرت الساعات و الساعات، و بقي هناك وحيدا ينتظر.
كل
شيء بدا مختلفا في تلك الليلة القمرية. لم يكن شعاع القمر الرمادي المتسلل
عبر القضبان القاتمة باهتا قاسيا كما اعتاده منذ ساقته يد الأقدار إلى
سرداب الموت الذي لبث فيه من عمره شهورا؛ بل كان لجينيا متلألئا يضج حيوية و
ينبض دفئا و ألفة. كانت خربشاته على جدران زنزانته توحي بذلك. كنت أستنطق
حركات يديه السريعة فلا تشي بغير سعادة غامضة لم أحسن يوما تأويلها فأكتفي
منها بخيط دقيق من شبه ابتسامة أرسمها على شفتي دعما له. كانت نظراته قد
ازدادت ألقا على ألق، تلمع منعكسة على جدران السجن و زواياه كلما أجال بصره
فيها. حاولت أن أستشف سرها عبر إمعان نظري فيها، لكن بريقها كان أقوى من
أن يمكنني من ذلك فيرتد إلي بصري خاسئا قانعا بما حازه من يقين بأن ذاك هو
ألق سعادة لا أكثر. كانت عفونة الجدار مبعث سعادة له في تلك الليلة. كان
يتمعنها و يتلمسها برفق كأنها مخمل ناعم، ثم تصدر عنه أصوات حادة مكبوتة
عرفت من طول معاشرتي له أنها دليل على رضاه.
كل
شيء كان مختلفا إلا عشاؤه القابع في ركن الغرفة على منضدة قرب الباب
الحديدي المصمت إلا من أعلاه حيث نافذتي التي تنقلني إلى عالمه. رغيف محشو
بقطع طرية من الطماطم اللزجة التي تمتزج بقطع الخبز بميوعة تعافها النفس.
كل ليلة، كان يكتفي بقضمتين يحرص أن يكونا أجف من بقية الرغيف و يترك بقيته
لنزلاء زنزانته يتناوشونه و يجرون غنائمهم منه إلى جحورهم ليقيموا على
شرفه مأدبة عائلية. لطالما كانت نظراته توحي بتقززه منهم لكنها كانت مختلفة
في تلك الليلة. كان يمعن نظره فيهم متوددا و ابتسامته بادية على أفق محياه
السمح بينما كنت أرقبه بنصف ابتسامة كسيرة
و هو يتحرك مبتعدا عن الرغيف دون أن يلمسه متنازلا عن لقمتيه علهما يقيمان
أود فأرة توشك أن تلد أو صرصار عابر سبيل تاه عن سربه.
بعد محاولات مضنية، تمكن من أن يصل بكرسيه المهترئ حتى بقعة انسكب فيها ضوء القمر كأنما هو فلقة قد سقطت منه. اتخذ لنفسه مقعدا هناك فانعكست عليه ظلال القضبان و أحاطته من جانبيه. أسند رأسه على كتفه الأيمن و أرسل ذراعيه على جانبي الكرسي ليتهيأ للنوم.
حين
اطمأننت لسكونه، أقفلت نافذتي بهدوء و جلست مستندا إلى الباب الحديدي
تجذبني الذكرى إلى اليوم الأول لمجيء هذا السجين المختلف عن كل من صادفتهم
طيلة سنوات خدمتي. قبل أشهر لا تعينني الذاكرة على تحديد عددها جاؤوا به
معصوب العينين، مكبل اليدين، يجر ساقه التي بدا جليا أنها قد كسرت حديثا
أثناء الاعتقال. كان أنينه صامتا لا يكاد يسمع إلا حين يركل الجندي الذي
يقتاده ساقه إن تباطأ في مشيته عبر ذات هذا الرواق المعتم الذي أجلس فيه.
كان المشهد مألوفا فلطالما رأيت سواه يُساقون، يُركلون ثم يُلقون في هذه
الزنزانة ليمضوا ليلتهم الأولى بين أنين و صراخ و صدى الوعيد بدرس لا يُنسى
يتردد في هذه الأصقاع المخنوقة. أما أنا فكنت و لا زلت أقذر من ذبابة و
أجبن من فأر لأتفوه أو أشير بما قد يوقف هذا المسلسل الذي لم تنتهِ حلقاته
منذ وُلد النظام. كان لساني قد قطع منذ أمد في زنزانة شبيهة بهذه قبل أن
أرضخ و أعلن الولاء لهم.
بقيت
طوال الليل واقفا أرقبه عبر نافذتي الصغيرة وقلبي تتمزق نياطه دون أن أقوى
على مد يد العون. رويدا رويدا خفت صوته، و استكانت حركته، و تمدد جسده على
أرضية زنزانته و شعاع القمر البارد منعكس على ساقه المرتخية إلى جواره. لم
تكد شمس اليوم التالي تطلع حتى جاء جنديان و أمراني بفتح باب الزنزانة.
دخلا و تعالى صراخهما فلم أتبين منه سوى عبارة " تشارك و تهتف في المظاهرات
يا كلب؟ تريد حرية و استقلالاً؟" ، ثم علا صوت صراخه مجددا و اختلط
بأصواتهما الناعقة و هما يجرانه إلى خارج الغرفة. كدت أشير بيدي لأرضي
ضميري الميت لكن نظرة واحدة من أحدهما كانت كافية لتذكيري بكل ما مر على
جسدي من هوان فلذت بصمتي و أشحت بوجهي لئلا أرى. لحظات و ابتلعهم رواق معتم
آخر خفتت عبره أصواتهم.
رميت برأسي بين كفي لأطرد بقايا
الذكرى العالقة بطرف الذاكرة ثم انتفضت حين سمعت صوت قرقعة داخل الزنزانة.
نهضت على عجالة و فتحت نافذتي فلم أرَ سوى طبق يدور دورته الأخيرة على
أرض الزنزانة بعد سقوطه عن المنضدة. لا شك أن جرذا قد أسقطه و هو يسحب
اللقمة الأخيرة المائعة في قعر الطبق. التفتت ناحيته حيث الشعاع القمري
لأجده لا يزال هناك مستكيناً على كرسيه. أقفلت النافذة، و عاودت الجلوس
فعادت الذكريات لتجلدني.
رأيتهما
و هما يعيدانه ليلتها. كانا اثنان آخران يجرانه من ذراعيه و ساقاه
متدليتان خلفه. كانت عيناه شبه مغمضتين و فمه مفتوح ينزف دما و لسانه يتدلى
مشرحا. صفعتني الذكرى مجددا و تذكرت أول جلسة كهرباء عالجوا لساني بها و
خرجت منها بلسان مشرح لشدة اصطكاك أسناني و عدم قدرتي على التحكم بها أو
التحكم بلساني لإبعاده عن مراميها. أشحت بوجهي كما اعتدت أن أفعل دوما حين
وصلتني صرخته مبحوحة بعد أن ألقوه في زنزانته. تلاشت كلماته رفقة صوته منذ
الليلة الأولى.
تتالت
زياراتهم و خفت معها بريق عينيه. وهن جسده و ارتخت أطرافه لقساوة جلسات
العلاج كما اعتادوا تسميتها. لا زلت أذكر تماما يوم أعادوه بعد يومي تغييب
بساق مبتورة و أخرى عاطلة عن العمل. خبرتي الطويلة في صنوف" العلاج" أكدت
لي أنها كانت نتيجة ضربة صائبة على العمود الفقري أصابته بشلل في النصف
الأسفل من جسده الذاوي. لم يصحبوه بعدها و تُرك نسيا منسيا إلا من رغيفي
الفطور و العشاء.
آذنت
عتمة تلك الليلة بالانبلاج، و سرى الدفء في الجسد الهزيل المكوم في كرسيه
فتململ متحركا. استرعت جلبته انتباهي ففتحت نافذتي و وقفت أتأمله. كان يدور
في أرجاء زنزانته يبحث عن ركن فارغ من جدرانها التي كانت قد ضجت برسوماته و
كلماته و خربشاته منذ تركوه فيها. أخيرا و جد ركنا على الجدار أسفل
النافذة و أمسك بقطعته الحجرية البيضاء و خط بتأنٍ " اليوم سأغمض عيني
لأموت بإرادتي". عرفت حينها ماهية الكلمات التي أسرَّ بها الضابط إليه ليلة
أمس و ألقت بنور على محياه
الباسم. كنت قد سمعتها سابقا لكنني لم أحسن اختيار ميتتي بعدها. يومها همس
الضابط بكل خسة و ابتسامة الهزء لا تفارقه: " هي ليلتك الأخيرة لأنك لا
تحسن إغماض عينيك و إقفال فيهك." أعلنت الولاء حينها و حكمت على نفسي بموت
بطيء حبيس هذا الرواق بعد أن تنكر لي القريب و الغريب. بقيت هناك لأكون
شاهدا على دناءة اختياري و عذابات سواي.
لحظات كالدهر مرت و أنا واقف أشبع ناظري من ذلك الوجه المليح و خربشاته التي غزت كل ركن في الغرفة.
عبر
الرواق لمحت ظل رجلي أمن قد أرسلا لاصطحابه. تكومت في ركني و أفسحت الطريق
لهما. فتحا الزنزانة و دخلا لدقائق لمفاوضته لكنه لزم صمته الذي ألفه منذ
الليلة الأولى. خرجا به يدفعانه و التقت عيناي بعبراتهما بعينيه الغائرتين و
ابتسامة عتب تكسر صمت شفتيه لتحكي آلاف الحكايا. أغمض عينيه و سارا به. لم
تكن تهمه كيفية الإعدام أو رؤية طقوسه فقد اختار لنفسه الميتة التي يرضى
موقنا أن نهايته ستكون رفاتاً يُكتشف يوما تحت بلاط إحدى الزنازين.
عند
الظهيرة، كنت في ذات الرواق أقف قرب النافذة و العبرة تخنقني و تحرق وجنتي
متأملا رغيف الفطور و هو يراوح مكانه على المنضدة دون أن يجرؤ النزلاء على
تناوشه في حضرة غياب صاحبه.
مرت الساعات و الساعات، و بقي هناك وحيدا ينتظر.
منقووووووووووووووول
هو أضعف الإيمان للتذكير بإخوة لنا يموتون في اليوم ألف مرة
في زنازين " العلاج"
تضامناً و دعما و وفاءً
هو أضعف الإيمان للتذكير بإخوة لنا يموتون في اليوم ألف مرة
في زنازين " العلاج"
تضامناً و دعما و وفاءً
Ahmad Fares- عضو صاعد
- الجنس : عدد المساهمات : 246
الــنــقـــاط : 24647
السٌّمعَة : 12
الموقع : سوريا الحلوة
رد: عشـــية الإعــدام
تم النسخ بانتظار القراءة
شكرا احمد
شكرا احمد
the Eagle- جيد
- الجنس : عدد المساهمات : 308
الــنــقـــاط : 23768
السٌّمعَة : 10
الموقع : كيف يعني ؟ ؟ ؟
Winter Lights :: القسم الأدبي :: قصص
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى